اعترافات أبناء الإخوان تكشف فساد منظومة التنظيم وتفتح الباب لمساءلة واسعة
اعترافات داخلية تفضح فساداً تنظيمياً وتفكك ثقة القاعدة في قيادات الإخوان
الفساد الذي كانت قيادات جماعة “الإخوان” تنكره صار واقعاً معترفاً به من قبل عناصر من داخل التنظيم، وهذه الحقيقة تعكس انقلاباً في مواقف أبناء الجماعة بعد سنوات من مبدأ “السمع والطاعة”، إذ تحوّلت صرخات المظالم الفردية إلى اعترافات علنية وأدلة إدانة مؤثرة تكشف ما يجري داخل دوائر صناعة القرار، وتظهر خللاً هيكلياً عميقاً يستعصي على الإصلاح، كما تشكل هذه الاعترافات ضربة قاضية لمصداقية قيادات طالما تظاهرت بالتقوى بينما كانت تحيطها شبهات إدارية ومالية.
في منشور نُشر عبر “الفيسبوك” بتاريخ الجمعة 21 من نوفمبر 2025، روى الإخواني الهارب حسن العشري فصول تجربته داخل الجماعة منذ أيام الدراسة، مؤكداً أنه كان مع الإخوان فكرياً وتنظيمياً لكنه لم يكن مطبّلاً للقيادات، وأن طبيعته النقدية ورفضه لتجاهل الأخطاء وضعته في صدامات إدارية متكررة منذ مرحلة الثانوية، وأضاف أنه تقدم باستقالته من الحزب ومن الجماعة بخط يده إلى مسؤول أسرته في أغسطس 2012 وإلى مستويات المسؤولين: أسرة، حي، شعبة، عمال، دون أن يتلقى رداً واضحاً سواء بالقبول أو الرفض أو حتى بالتجميد، واعتبر ذلك أول درس جلي دفعه إلى إعادة تقييم انخراطه التنظيمي.
وكشف العشري أنه شارك في اعتصام رابعة بعد الثالث من يوليو 2014، وعاد لاحقاً إلى العمل التنظيمي في لجنة العمال التي كان عضواً فيها بحزب الحرية والعدالة، وكان يكتفي بلقاءات عمالية تنظيمية منتظمة، كما اعترافه بمشاركته مع أعضاء من عدة محافظات في تأسيس “حركة أول مايو”، قبل أن يهاجر إلى دولة مجاورة ثم إلى دولة اعتبرها حاضنة لعناصر التنظيم، وأوضح ارتباطه بإخوان إحدى الدول بطريقة إدارية وسياسية لا تنطبق على تنظيم الإخوان في مصر، مشيراً إلى أنه سافر على نفقته الخاصة لحضور انتخابات تنظيمية في الخارج، وبيّن معرفته بفساد إداري وسياسي ومالي شديد، وما جعله يصدر قرار الابتعاد نهائياً عن أي منظومة يحتمل أن تُشكك في دوافعها الدعوية أو الشخصية، مؤكداً أنه لن يعود إلى وسط المنظومة الفاسدة حتى ولو تم إصلاحها بالحد الأدنى.
في ساحة التعليقات على منشور العشري، عبّر الإخواني محمد الفيل عن موقف مماثل حين قال إنه لا يشعر بأن الإخوان في الخارج يمثلونه، وأن ممارسات الإخوان بالخارج أسهمت في إفساد المنظومة، وأكد أن كل شخص يتحدث باسم نفسه فقط، وهذه الكلمات جاءت لتؤكد وجود فاصل بين مواقف عناصر داخل البلاد ومن في المهجر، وتصاعد مستوى الاحتجاجات الداخلية ضد ممارسة الفبركة والتسيير داخل القواعد.
واصل حسن العشري حملته على قيادات الجماعة خلال نوفمبر 2025، إذ نشر سلسلة منشورات اتهم فيها قيادات التنظيم بمحاولات هندسة الانتخابات الداخلية لتثبيت نفوذ مجموعات بعينها، وتلك الهجمات، كما بدا في ردود الفعل، ضربت مصداقية القيادات وطرحت علامات استفهام عن مدى التزامها بمبادئ الشورى والشفافية، وهو ما جعل بعض المراقبين داخل التنظيم يرون أن هذه التصريحات تجاوزت خطوط الصمت التقليدية.
في منشور مؤرخ الخميس 20 من نوفمبر 2025 تمنى العشري أن تكون الممارسات الجارية داخل الدوائر المغلقة أفضل مما شهدته انتخابات 2021، وأضاف أن رجاءه عند الله أن يبرز من بين الصفين عقلاء قادرون على العمل الجاد لتصحيح المسار ووضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وهذه الأمنية أعربت عن رغبة داخلية في استعادة ثقة القاعدة وإعادة ترتيب الأولويات بعيداً عن المصالح الشخصية والمناورات الإدارية.
وجاء تعليق يحيى الوليلي ليفسّر المألوف في الذهنية المؤسسية عند بعض الأفرقاء داخل الجماعة، إذ وصف عمليات الانتخابات بأنها “صورية” وتجرى باسم الشورى مستندة إلى قوانين ولوائح تطمس جوهر المساءلة، وذكر أنه شجعته تصريحات العشري على كتابة ملاحظات أخرى عن هذه الانتخابات الورقية، كما انتقد منطق الثقة الذي يتحوّل إلى أداة ضغط تُستخدم لردع كل من يسأل أو ينتقد أو يطالب بالمحاسبة، موضحاً أن الثقة لا تُفرض بالقوة بل تُبنى بالصدق والمسؤولية.
في منشور سابق بتاريخ الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 تناول العشري جوانب القمع التنظيمي التي يتعرض لها “المغضوب عليهم” داخل الجماعة وفي كيانات حليفة، مشيراً إلى أنها تصل إلى مستوى الملاحقة في أماكن العمل والتضييق على مصادر الرزق، وقدم حكايات واقعية لأفراد يواجهون حصاراً مهنياً، حيث يصبح انتقال الشخص من عمل إلى آخر صعباً للغاية من دون موافقة أو “تأشيرة” من أصحاب المؤسسات القديمة، وهذه الممارسات ترجمت منطق التحكم الشبكي في مناسبات التعيين والتوظيف.
روى العشري تجربة شخصية من عام 2015 حين كان يبحث عن فرصة عمل، فتقدّم إلى شركة قبل افتتاحها بأربعة أشهر واُوعد بأنه سيكون ضمن أول المعيّنين لكونه من المتقدِّمين الأوائل، لكن عندما افتتحت الشركة جرى تعيين أشخاص قريبين من جهات معينة، ومنهم من قدم بعده، ثم توقّفت إجراءات تعيينه نهائياً بعد تدخل توصية مفادها أن “حسن متعب”، وأضاف أن عملية اختيار التعيين كانت مرتبطة بعلاقات وتوصيات من “أحد بتوعهم”، ما كشف له كيف تلعب شبكة العلاقات والتحكم في مصادر المال والتحزّبات دوراً حاسماً، رغم الشعارات الكبيرة عن المبادئ والقيم.
تشكل اعترافات العشري حلقة من حلقات سلسلة أوسع لصرخات أبناء الجماعة الموصومين بعدم القدرة على النقاش ورفع صوت الاعتراض، إذ يعبرون عن خيبة أمل من منطق الإذعان الذي يفرضه القادة، وهذه الاعترافات تكشف جوانب من فساد منظومة كانت تدّعي الزهد والورع بينما تراكمت ثروات لدى قيادات، وتركت آلاف المنتمين يواجهون مصيراً مجهولاً في دول ظنّوا أنها ملاذ آمن، كما تستدعي إعادة قراءة لمفاهيم المساءلة والشفافية داخل التنظيم.
تلك الاعترافات الداخلية لا تقتصر على نقد سلوكيات وقرارات قيادية فحسب، بل تضرب جذوراً هيكلية تتمثل في شبكة علاقات ومصالح مترابطة تعمل على تهميش الأصوات الناقدة وإعاقة أي مسار إصلاحي حقيقي، وهذا الواقع يؤكد أن أي محاولة لإصلاح المنظومة تحتاج إلى إجراءات بنيوية تعيد توزيع السلطة وتفرض آليات مراقبة حقيقية، وإلا فإن الجراح العميقة التي كشفتها تلك التصريحات ستستمر في تمزيق ثقة القاعدة بممثليها.
تظل الاعترافات، بما تحمله من تفاصيل شخصية وتنظيمية، تذكيراً بأن أزمة الثقة داخل جماعة “الإخوان” أصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وأن مواجهة الآثار الناتجة عن سنوات من الإخفاء والتستر تتطلب أكثر من كلمات، بل خطوات عملية تعيد الحقائق إلى العلن وتؤمن لقاعدة الجماعة مساحات للمساءلة والحوار، وبهذا فقط يمكن أن يفرض التغيير نفسه على أرض الواقع ويعيد للمجتمع صورة تنظيمية لا تتبرأ من ممارساتها.


تعليقات