سيدي القاضي: «أنا خائفة» — اعتراف يفتح ملف حماية الشهود
رسالة أم إلى سيدي القاضي بعد حادثة الاعتداء في مدرسة دولية
سيدي القاضي، أكتب إليكم ليس بصفتي المهنية فحسب، بل بصفتي أمًا استيقظت على خبر اخترق قلبها قبل أن يستوعبه عقلها، استيقظت على تفاصيل اعتداء تعرّض له أطفال أبرياء في مرحلة الروضة، أطفال لم يتجاوزوا الخامسة من العمر، هم الذين يرتادون مدرسة دولية كان يفترض أن تكون مكانًا أكثر أمانًا وانضباطًا ورقابة، فإذا بها وفق ما أُعلن تتحول إلى مساحة مظلمة تختبئ فيها جريمة بشعة متكررة لا يمكن تصور حدوثها.
التفاصيل المعلنة بشعة إلى حد يصعب وصفه، الاعتداء على براءة هؤلاء الصغار بأيدي من كان من المفترض أن يوفر لهم الحماية ينتقل من أزمة إلى كارثة، شهادات تتحدث عن مشاهد مرعبة حيث وُثّق الأطفال بالحبال وتعرّضوا لتهديدات بأدوات حادة، حتى التعبير عن النفس والاعتراض على الجريمة كان ممنوعًا، الجناة عملوا على فرض صمت مرعب على أولاد وبنات في عمر الزهور تعرضوا لانتهاكات تجعل الولدان تشيب، مُجبرين بحكم الخوف المصنوع على السكوت والانعزال داخل صدر صغير قد لا يجد كلمات ليعبر بها عن ما حصل.
لدي طفل في العمر نفسه، منذ سماعي بالخبر وأنا أراقبه بعين الأم التي لا تبرحها الهواجس، لا قدرة لقلب صغير على احتمال صدمة مماثلة دون أن تتحطم أجزاء من أمانه النفسي، الطفل الذي لم يتعلم بعد كيف يصنف مشاعره قد يجد نفسه عاجزًا عن تسمية خوف يرزح تحته، عبارة بسيطة قد تنقض عالم الأم، عندما يرتفع صوت طفل يقول لماما إنه خاف، تنهار كل ثوابت الأمان في لحظة من الرعب الصامت، وما يلبث أن يتحول البيت إلى مكان بعكوس مخاوف جديدة يتطلب رعاية وعلاجًا طويلين لاستئصال أثرها.
هؤلاء الأطفال لا يمتلكون مفردات تهديد أو ابتزاز، عالمهم يختزل الألعاب والألوان والأغنيات، أن تفرض عليهم تجربة احتجاز بالحبل داخل مخزن ضيق هو إذلال للطفولة وطمس لبراءتها، هم لا يعرفون معنى التهديد بالسكين لكن جسدهم عرف الخوف، عيونهم بحثت تلقائيًا عن منقذ، عن معلمة أو مشرفة قد تظهر لتخفف ما بدا عليهم من ارتجاف، وما بقي في نفوسهم من انطباع عن العالم تحول إلى رعب مبهم سيحتاج إلى وقت طويل وشهود رقيقين من الرعاية ليتبدد.
أتصور أمهات المدرسة ووجوههن المرتجفة في دقائق كان فيها البوح بالجمر، الأم التي اندفعت إلى بوابة المدرسة واحتضنت طفلها بكل ما فيها من خوف حاولت قراءة عينيه لتعرف ما ألمّ به، المشهد الذي يتلبس كل أم حين تسمع طفلها يهمس بكلمات تقطع الأوصال، صوت يتجمد في الحلق ويد ترتعش وتبحث عن تفسير، الطفل لا يفهم بكاء والدته لكنه يشعر بانقباض قلبها، في ذلك اليوم احتضنت كل أم طفلها كأنها تحاول إدخاله في داخلها لتحميه من عالم اختلّت فيه قواعد الأمان.
هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد «ضحايا» على الأوراق الرسمية بحسب التحقيقات، هم أطفال كانوا يرسمون ويغنون، يتعلمون كيف يمسكون أقلام التلوين ويخوضون أولى خطوات التواصل الاجتماعي، وفجأة وجدوا أنفسهم في مساحة ضيقة خانقة اسمها المخزن، تحول روتين اللعب إلى مشهد للذعر والحرمان من الحرية، فقدان الطفولة في لحظة كهذه يترك ندوبًا تحتاج إلى رعاية متخصصة وصبرًا طويلًا من الأسرة والمجتمع والمؤسسة التعليمية نفسها.
لا نعرف كيف تسارعت دقات قلوبهم وكيف ارتجفت أيديهم الصغيرة وكيف نظرت أعينهم باحثة عن أي علامة أمان، لا نعرف ماذا دار في رؤوسهم حين اشتد الحبل على معاصمهم الصغيرة ولا كيف تحولت الدهشة إلى فزع متواصل ثم إلى صمت طويل سيعشّش في ذاكرتهم مدى الحياة، هذا الصمت ليس غيابًا للكلام فحسب بل هو شعار لصدمة تحتاج إلى كلمات تتسع لفهمها وعلاجًا يتجاوز بيانات رسمية ويرتكز على دعم نفسي واجتماعي متكامل.
أنتم رمز العدالة على الأرض، الملف يأخذ مجراه الطبيعي أمام القضاء ونحن نثق بحسمكم وبروح القانون، إذا أثبتت الأدلة جرائم لا يُحتمل سماعها وإذا تبين أن هذه الأرواح الصغيرة طعنت في مأمنها فإننا وباسم كل الأمهات نطالب بتطبيق أقصى العقوبات الممكنة لردع كل من تسوّل له نفسه ترويع الأبرياء، فالإرهاب لا يقتصر على جماعات وميليشيات فحسب بل قد يتسلل أحيانًا عبر أفراد يعيشون بيننا ويستهدفون أمننا الاجتماعي والنفسي، وتطبيق القانون بحزم يمثل خطوة أساسية لاستعادة الشعور بالأمن والعدالة.
أطالب أيضًا بعمل جاد لتقديم حماية عملية للضحايا ونفوسهم، بدءًا من إجراءات تحقيق شفافة ومحايدة وصولًا إلى برامج دعم نفسي متخصصة للأطفال وأسرهم، بالإضافة إلى مراجعة عاجلة لآليات الرقابة في المؤسسات التربوية، فلا يجوز أن تبقى الثغرات التي سمحت بوقوع مثل هذه الجرائم دون معالجة، المجتمع كله مطالب بأن يتكاتف لحماية أطفاله وتحصين مؤسسات التعليم من أي قصور يعرض حياة الأطفال وسلامتهم للخطر.
أزرع في هذه الرسالة صوت ضعف الأمهات اللواتي لم يذقن النوم منذ الإعلان عن وقائع التحرش والاغتصاب في المدرسة الشهيرة، وأبرز حاجة الأطفال الذين سيكبرون وهم يحملون ظل خوف لا يعرفون اسمه، أطلب الرحمة لمجتمع يريد أن يطمئن أن المدرسة والنادي ليسا بوابة إلى المجهول المظلم، وأنه لا أحد يقود الأطفال يومًا إلى مخزن يواجهون فيه أبشع خيانة للأمان، هذه المسؤولية جماعية وتستدعي إصلاحات حقيقية وتعاونًا بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والأسرة.
أؤكد أن قصدي ليس التأثير على مسار الملف قضائيًا ولا التدخل في سير العدالة، نحن نثق في أحكام القضاء وثباته ونزاهته ولا نريد الظلم لبريء، لكن الخوف الذي تسلل إلى قلبي غلبني بفعل تفاصيل لا تليق بمجتمعنا وحاضرنا الذي هو امتداد لحضارتنا، وكلاهما يقوم على العادات والتقاليد واحترام القانون، ولذلك يجب أن تكون العدالة حازمة ومتوازنة، وأن تترافق مع إجراءات إصلاحية تمنع تكرار ما حدث وتعيد بناء مشهد الأمان للأطفال بأفعال ملموسة.


تعليقات