زلزال في الجيش الإسرائيلي: هجوم 7 أكتوبر يكشف هشاشة المنظومة ويُمهّد لمرحلة أمنية جديدة
في الخامس من أكتوبر لم تكن إسرائيل تُصنَّف فحسب كأكثر المؤسسة العسكرية تطورًا في الشرق الأوسط، بل كانت تُعتمد على هيكل أمني متين، ثم تحول السابع من أكتوبر 2023 إلى نقطة تحوّل تاريخية كسرت تلك الصورة النمطية، حيث لم يقتصر الأثر على جبهات القتال فحسب، بل اخترق أعماق المؤسسة العسكرية وكشف صدوعًا خطيرة داخل منظومة الأمن الإسرائيلية، محدثًا ما يشبه «زلزالًا داخليًا» لا تزال ارتداداته تتوالى حتى اليوم، الأمر الذي دفع إلى مراجعات استراتيجية وممارسة ملكات دفاعية جديدة على مستوى الدولة والقوات المسلحة.
الهجوم الذي نفذته حركة حماس في ذلك اليوم لم يترك أثره فقط على ساحات القتال، بل كشف هشاشة في مواقع حساسة داخل قواعد الجو الإسرائيلية، وأعاد تعريف أولويات القيادة العسكرية من فرضية التفوق الخارجي نحو تحصين الداخل وحماية المنشآت الحيوية، كما أثار نقاشًا صعبًا حول ولاء المجندين وصلابة أجهزة الاستخبارات المحلية، وهو نقاش امتد إلى عمق المجتمع وسياساته الأمنية.
أولًا: جذور التفكك والعوامل التي كشفت الانهيار
التحقيقات اللاحقة بالهجوم دفعت الجيش إلى وصف ما حدث بضرورة إجراء «أعمق مراجعة أمنية منذ حرب 1973»، وهو توصيف يحمل طابعًا إقرارياً صارخًا بوجود خلل منهجي، فقد أظهرت التحقيقات ثغرات أمنية بالغة داخل القواعد الجوية، ثغرات فتحت الباب أمام تساؤلات جوهرية حول حقيقة قوة إسرائيل العسكرية ومدى متانة دفاعاتها الداخلية، كما أقرّت المؤسسة العسكرية — وللمرة الأولى بشكل علني — بأن المنشآت الجوية كانت معرضة لاحتمال اقتحام أو اختراق، وأن ما جرى في السابع من أكتوبر كان كافيًا لإحداث انهيار أكبر لو تمكنت مجموعات من الوصول إلى قواعد حساسة مثل «حتسريم» و«تل نوف»، وهو إدراك دفع إلى إعادة هيكلة شاملة للأمن الجوي والاعتراف بوجود ضعف داخل الجبهة العسكرية الأكثر حساسية في البلاد، معالجة هذه الثغرات لم تقتصر على إجراءات تقنية فحسب، بل امتدت لتشمل تغييرات في العقيدة الأمنية وأساليب التجنيد والتدريب والمساءلة.
ثانيًا: الوحدة النخبوية الجوية.. إعادة بناء أمن سلاح الجو من أساسه
أعلن الجيش عن تشكيل وحدة نخبة خاصة ضمن سلاح الجو تهدف إلى تأمين المنشآت العسكرية الجوية ومنع أي عملية اقتحام أو اختراق مستقبلي، القرار يفهم على أنه أكثر من تحرك تكتيكي، بل خطوة استراتيجية لإعادة ضبط معايير الحماية داخل القواعد، والوحدة الجديدة ستعمل تحت لواء «الجناح 7» وتتكامل مع وحدات الكوماندوز الجوية وكتائب الأمن الموزعة داخل القواعد، في نموذج أمني حديث يركز على التحصين الداخلي بدل الاعتماد الحصري على الردع والهجوم خارج الحدود، ويشمل ذلك تنسيقًا أفضل مع أجهزة الاستخبارات والدوريات الحدودية وإدارة الأزمات داخل القواعد.
المهام الأساسية للوحدة تشمل تجنيدًا خاصًا عالي الدقة، وتدريبًا مكثفًا على الأسلحة المتقدمة، وإجراءات تفتيش ميدانية دقيقة ومستمرة، وتشغيل أنظمة دفاعية حديثة، بالإضافة إلى قدرة تدخل سريع لصد أي محاولة تسلل أو هجوم، هذه المهام ستُنفَّذ وفق معايير أمنية جديدة تتضمن تقييمًا يوميًا للتهديدات، وتمارين مشتركة منتظمة مع وحدات الاحتياط، ونُظم مراقبة داخلية متقدمة تعمل بتقنيات استشعار ومراقبة متصلة، والهدف من ذلك تحويل البنية الأمنية إلى شبكة مرنة قادرة على امتصاص الضربات والاستجابة الفورية.
ثالثًا: برنامج شامل لإعادة ترميم منظومة الدفاع الجوي
يقود سلاح الجو برنامجًا واسع النطاق لإعادة بناء منظومة الدفاع الجوي داخليًا، البرنامج يشمل رفع مستوى جهوزية قوات الاحتياط، وتعزيز التحصينات الفيزيائية وبناء دفاعات أعمق حول النقاط الحيوية، كما يضم تشكيل كتائب تدخل جديدة، وتطوير الأنظمة الأمنية والرقابية داخل القواعد، وتحديث أنظمة الإنذار المبكر، ومضاعفة الإجراءات لمنع تسلل مفاجئ، ويشمل ذلك استثمارات في البنية التحتية، وفي تقنيات الاتصال المشفر، وبرامج للحفاظ على الجاهزية الطبية واللوجستية، إذ تحولت الأولوية الدفاعية إلى مبدأ عقائدي داخل القوات، بعد عقود من الاعتماد على الضربات الاستباقية والهجمات خارج الحدود.
هذه الخطوات تظهر بوضوح أن القيادة العسكرية اعتبرت أن حماية العمود الفقري للقوة الجوية لم تعد قابلة للتأجيل، وأن الحاجة إلى إعادة تقييم توزيع الموارد والطاقات باتت ملحة لضمان استمرار القدرة على العمل في ظروف ضغط استراتيجي متزايد، وتمثل إعادة التركيز تجربة تعلم مريرة قادَت إلى تغييرات تنظيمية وتكنولوجية عميقة.
رابعًا: اكتشافات مقلقة حول الوصول إلى قواعد جوية
أظهرت التحقيقات أن مقاتلي حماس كانوا يملكون خرائط تفصيلية لقاعدتي «حتسريم» و«تل نوف»، وهو ما يشير إلى اختراق استخباراتي داخلي داخل الأراضي الإسرائيلية، وقدرة الحركة على دراسة نقاط الضعف العسكرية بدقة، وفشل المنظومة الأمنية في حماية أهم مواقعها، المخاطر المكتشفة تضمنت خططًا واضحة تهدف إلى الوصول إلى هذه القواعد وتعطيل قدرة سلاح الجو ولو مؤقتًا، وهو احتمال كانت إسرائيل تعتبره شبه مستحيل قبل السابع من أكتوبر، وتلك الحقائق أجبرت القادة على إعادة تقييم افتراضات الأمن والاستعدادات القطرية، كما أدت إلى تشديد إجراءات الوصول والهوية، ومراجعة سلاسل الإمداد والملاحة داخل القواعد.
نتائج الكشف تضمنت تصعيدًا في تدابير الحماية حول المنشآت الحساسة، وتعزيز تعاون أجهزة الاستخبارات المحلية مع الحلفاء الخارجيين في مجالات تبادل المعلومات، وإجراء عمليات تنظيف رقمي وميداني للحد من تسريبات المعلومات، كما فتحت هذه الاكتشافات نقاشًا شبه دائم حول ضرورة فصل مناطق التخزين والتدريب عن نقاط الوصول المدنية، وتطبيق معايير أمان سوية عالمية تتماشى مع خصوصية التهديدات القائمة.
خامسًا: التجسس الداخلي وتأثيره على الثقة المؤسسية
أعلن جهاز الأمن العام (الشاباك) عن ضبط حالات تجنيد لمواطنين إسرائيليين للعمل لصالح أجهزة استخبارات إقليمية، بهدف جمع معلومات حول الروتين الأمني داخل القواعد الجوية، وتلك القضية أسقطت ضوءًا قاتمًا على احتمالات التجسس من الداخل، إذ لم تعد المخاطر تنحصر في الهجمات التقليدية وحدها، بل امتدت إلى ثغرات بشرية وولائية، كما أثارت هذه الوقائع نقاشات حول أسباب انخراط بعض الأفراد في أعمال تجسسية سواء بدوافع مادية أو أيديولوجية أو تحت ضغوط نفسية واجتماعية، وأضافت صعوبة إلى مهمة القيادة في استعادة ثقة الجنود والضباط، وجعلت من تعزيز آليات الفحص النفسي والاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الأمن القومي.
النتيجة العملية كانت زيادة فحوصات الخلفيات، وبرامج دعم نفسي واجتماعي للمجندين، ومبادرات لإعادة بناء علاقة الوَحدة بين القيادة والقاعدة، إذ تبين أن الانقسامات السياسية والاجتماعية والإرهاق المستمر بفعل الحرب الطويلة في غزة أسهمت في تشقق الروح المعنوية، وبالتالي في زيادة قابلية بعض الأفراد للتجنيد من قبل جهات معادية، معالجة هذه المشكلة تستلزم جهودًا طويلة الأمد لإصلاح خلخلة الثقة وإعادة تعبئة الشعور بالمسؤولية الوطنية.
سادسًا: تحول في العقيدة العسكرية وصياغة أولويات جديدة
التحول من جيش هجومي يركّز على التفوق العملياتي خارج الحدود إلى جيش يضع حماية نفسه والمنشآت الحيوية في صدارة الأولويات يشكل تعديلاً عقيديًا جوهريًا، ويرى خبراء عسكريون أن قرار إنشاء وحدة النخبة الجوية يعكس اعترافًا بأن إسرائيل تواجه أزمة عقائدية تتطلب ترجمة أمنية فورية على الأرض، فالتحصين الداخلي أصبح الآن جزءًا أساسيًا من العقيدة العسكرية الجديدة، بعدما أدركت القيادة أنه لا يمكن خوض الحروب بينما قواعدها معرضة للاختراق، ولذا تشهد المناهج التدريبية تعديلًا كبيرًا يوازن بين قدرات الهجوم والصلابة الدفاعية.
الخبير العسكري البريطاني جوناثان غرينفيلد وصف القرار بأنه مؤشر على تحول استراتيجي، مؤكدًا أن سلاح الجو يشكل العمود الفقري لتفوق إسرائيل العسكري، وأي فشل في حماية قواعده يضع هذا التفوق على المحك، وبالتالي فإن الاعتماد على تحصينات داخلية ودورات تدريبية متقدمة ونُظُم مراقبة متكاملة صار مطلبًا لا غنى عنه، هذا التحول يستدعي أيضًا إعادة توزيع الموارد ونقل أولوية التطوير إلى تقنيات الحماية والقدرة على الاستجابة السريعة للنوايا العدوانية داخلية كانت أم خارجية.
القرارات الأخيرة ليست مجرد إجراءات أمنية تقنية، بل تعبير عن أزمة بنيوية داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، أزمة تتسم بكسر صورة الردع، وتسريبات استخباراتية، وتراجع ثقة بين القيادة والقاعدة، وإعادة صياغة عقيدة قتالية بأثر طويل الأمد، والوحدة النخبوية الجوية الجديدة تُنظر إليها كحاجة لإغلاق جرح مفتوح لا تزال تداعياته تهز المؤسسة العسكرية بأكملها، ومع استمرار الحرب والضغوط الداخلية تبرز أمام إسرائيل اختبار وجودي حقيقي يتطلب مزيجًا من الإصلاحات المؤسسية، والاستثمارات التكنولوجية، والمضي في مسار إعادة بناء الثقة الوطنية والجاهزية القتالية.
المرحلة المقبلة ستشهد تطبيق إجراءات أمنية منظومة وجهرية، كما ستُعطى الأولوية لبرامج تستهدف استعادة تماسك المؤسسة العسكرية ومتانة الدفاع الجوي، ومستقبل قدرة إسرائيل على المحافظة على تفوقها يعتمد على نجاح هذه المساعي في إعادة بناء شبكة حماية تعمل بكفاءة، وتستعيد الروح المعنوية، وتغلّب الانقسام على وحدة الهدف، وفي ظل هذا المناخ المتغير يظل السؤال العملي حول مدى قدرة الإجراءات المستجدة على منع تكرار اختراقات مماثلة، ومدى سرعة تحقيق نتائج ملموسة تبعث على الطمأنينة لدى القيادة والمجتمع على حد سواء.


تعليقات