دموعٌ على الجلباب الأزرق: الفلّاح المصري في ضمير المستعمِر

دموعٌ على الجلباب الأزرق: الفلّاح المصري في ضمير المستعمِر

في كل أزمنة الهزائم والانتصارات، يبقى الفلاَّح المصري هو «الظلّ الطويل» الذي لا يراه أحد، الكتف الصامت الذي حمل الدولة والسلطة والمدينة والجيش، ثم عاد آخر النهار إلى طينٍ لا يملك منه سوى اسمه. وحين يتحدّث المستعمِر – القادم من وراء البحار – عن «أحوال الفلاَّح»، فنحن أمام مشهد تتداخل فيه السخرية بالصدق، والشفقة بالحسابات، والدمعة المعلَّقة على حافة عينٍ لا نعرف إن كانت رحمة أم رغبة في بقاء الأرض مطيعة.

لم يكن غريبًا أن يكتب ونستون تشرشل – واحدًا من أكثر ساسة بريطانيا براغماتية – عن الفلاَّح المصري بنبرة تجمع التعاطف والاستغراب. فالرجل، رغم صلابته وتاريخه العسكري والسياسي، كان يعرف أن مصر ليست مجرد نقطة على خريطة مستعمرات التاج البريطاني، بل عقدة جغرافية تتقاطع فيها مصالح الامبراطورية، وممرّ بحرٍ لا تهدأ أهميته، وأرضٌ زراعية تُطعِم النهار وتُسكِت الجوع.

كان تشرشل، كما روى الملك فاروق، يراقب أحوال الفلاَّح ويُبدي انزعاجًا حقيقيًّا من التفاوت الفادح بين الطبقات. وربما كان في كلامه شيء من الصدق، لأن بعض الإنجليز تحرّكت ضمائرهم فعلاً حين رأوا فلاَّحًا يجرّ محراثه وكأنما يجرّ عمره كله وراءه، أو حين شاهدوا طفلة تجمع سنابل الشعير المتساقطة من الطنابير لتُطعم إخوتها.

حتى اللورد كرومر، رغم أنه أحد رموز الاستعمار الإداري الأكثر صرامة، أعلن انحيازه – على الورق على الأقل – لـ«أصحاب الجلابيب الزرقاء». قالها كناية عن الفلاَّحين. وقد تبدو الجملة مجرد رتوش سياسية، لكن ما كان يراه في الريف المصري كان فعلاً أكبر من قدرة أحد على إنكاره، حتى بعين مستعمِر جاء ليستقر ويستفيد.فمصر بالنسبة لهم لم تكن وطنًا، بل ممرًّا إلى الهند، وسكةً إلى إفريقيا، ونافذة على المتوسط. ورغم ذلك، بقيت أحوال الفلاَّح تفرض نفسها على ضمير بعضهم، لأن المأساة كانت أفدح من أن تُخفى.

وحين قامت ثورة يوليو وأُعلن عن مشروع الإصلاح الزراعي، تلقّى تشرشل الخبر من بعيد.لكنه لم يكتفِ بالمشاهدة، فأرسل برقية يقول فيها، باختصار شديد:

كلما سمع عن برنامج جمال عبد الناصر ورفاقه، وخاصة مشروع الإصلاح الزراعي، شعر بأن هناك مَن يحاول – ولو مرة – أن ينصف الفلاَّح الذي «امتلأت حياته بالأحزان».

هذه الجملة وحدها تكشف أن معاناة الفلاَّح المصري لم تكن خافية على العالم، لكنها كانت دائمًا أكبر من جرأة النخب المحلية على الاعتراف بها، أو أكبر من شجاعة الساسة في الاقتراب منها.

فالفلاَّح في الذاكرة الجغرافية المصرية ليس مجرد عامل على الأرض، بل هو «بارومتر العدالة» و«ميزان الاستقرار». كلما انحنى ظهره، انحنت معه البلاد.وكلما نهض، نهضت معه الدولة. ورغم أن المستعمِر لم يكن يومًا حارسًا للحقوق، فإن صورة الفلاَّح كانت تُحرّك في ضميره – أحيانًا – ما لم يحرّكه في ضمير مَنِ اغتنى على حسابه من أبناء جلدته.

كان الفلاَّح هو الكائن الأكثر حضورًا والأقل كلامًا. هو الذي عرف قسوة الضرائب في عصور المماليك، والظلم تحت الباشوات، والتجنيد الإجباري في زمن محمد علي، والشقاء الممتد في كل قرن. ومن هنا جاء إعجاب المستعمِر ببرنامج الإصلاح الزراعي: لأنه لأول مرة كان يرى محاولة جادّة – ولو جزئية – لإعادة شيء من التوازن بين مَن يزرع ومَن يحصد.

المفارقة أن دموع المستعمِر على الفلاَّح لم تكن نقية بالكامل، كانت خليطًا من إنسانية جزئية وحسابات جغرافية دقيقة. فمصر المستقرة تعني قناة آمنة، وطريقًا محميًا إلى الهند، وأرضًا تُبقي الممرات مفتوحة. لكن رغم هذا، بقي فيهم مَن كتب وتحدث وانتقد التفاوت القائم بين الريف والمدينة.

الحقيقة الكبرى في هذه الحكاية أن أحوال الفلاَّح كانت – وما زالت – مرآةً صافيةً تكشف أخلاق السلطة: سلطة الخديوِ، وسلطة المستعمِر، وسلطة الحكومات الوطنية، وسلطة المجتمع ذاته.

فالجلابية الزرقاء لم تكن يومًا مجرد زيّ، كانت شهادة عمر، وصرخة مكتومة، ومحضرًا مفتوحًا بين الإنسان والتاريخ. وما بين دمعة تشرشل، وبرقية تشجيعه، وحسابات الأمم، يبقى الفلاَّح المصري هو نقطة الالتقاء الوحيدة بين إنسانية المستعمِر وظلم الجغرافيا، وبين عدالة الأرض وقسوة التاريخ.

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية